تعتبر الحماية الاجتماعية جزءا أساسيا ضمن السياسات العمومية، التي تسُنّها الدولة بهدف تجويد الخدمات المُقدمة للمواطنين؛ فقد شرع المغرب، منذ السنوات الأولى التي تَبعت حصوله على الاستقلال، في إرساء العديد من أنظمة الحماية الاجتماعية، ليقوم بإحداث الصندوق المغربي للتقاعد والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وصندوق التماسك الاجتماعي وغيرها من الصناديق.
وفي الوقت الذي تثمن فيه مختلف الحكومات المتعاقبة حُزمة البرامج التي قامت بها لتحسين معيشة المغاربة، فإن بعض الهيئات الحقوقية والمؤسسية نبهت إلى خطورة الوضع الداخلي لهذه الأنظمة الاجتماعية، التي وصلت إلى حافة الإفلاس، نتيجة غياب الحكامة في التدبير وضعف آليات المراقبة والتتبع.
جريدة هسبريس الإلكترونية تحاول مقاربة طبيعة السياسة الاجتماعية التي تنهجها الدولة. كما تقوم بسبْر أغوار طرق اشتغال أغلب الصناديق المغربية، المُخصصة لدعم الفئات الهشة والضعيفة، من خلال استحضار مختلف التقارير التي أصدرتها بعض المؤسسات الدستورية، إلى جانب استقاء آراء العديد من الفاعلين في المجال، بغية تقييم عمل هذه الأنظمة بعد عقود من الاشتغال.
الضمان الاجتماعي.. إمكانات بشرية محدودة
عمل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على تطوير خدماته الرقمية، حيث شرع في تقديم باقة من الخدمات الإلكترونية لفائدة منخرطيه، بغية الحفاظ على التواصل السريع والآني معهم.
وفي هذا السياق، أحدث الصندوق، خلال السنوات الأخيرة، مجموعة من التطبيقات الإلكترونية بهدف تقليص تكاليف التسيير وتسريع وتيرة الإجراءات الإدارية؛ لكنها تبقى غير كافية، إذ إن الإدارة العامة تحتاج إلى اتخاذ المزيد من الخطوات الاستباقية، إلى جانب تعزيز الخدمات التواصلية مع المواطنين.
عز الدين الزكري، رئيس الجامعة الوطنية لمستخدمي الضمان الاجتماعي، المنضوية تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، قال إن “التغطية الصحية التي تضم مختلف الخدمات التي تُقدم للمواطنين، من قبيل التقاعد والتعويضات العائلية والتعويض عن عطلة الأمومة والمرض، في وضعية جيدة”.
وأضاف الزكري، في تصريح لـ هسبريس، أن “الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بدأ في استعمال المعلوميات وإدخال تقنيات الرقمنة، الأمر الذي ساعد المواطن في الاطلاع على وضعيته من بعيد؛ لكن المشكل يكمن في عدم اعتياد الناس على الدخول إلى هذه الخدمات الرقمية”.
وأوضح المتحدث ذاته أن “التغطية الصحية تعتريها بعض المشاكل؛ بحيث أطلقت الدولة العديد من الأوراش الجديدة، لا سيما فيما يخص المستقلين والأجراء، إذ تعوّل الدولة على رفع عدد المُؤَمّنين إلى سبعة ملايين؛ لكن إمكانات الصندوق الوطني محدودة، في مقدمتها الموارد البشرية التي تم تقليصها بنحو 50 في المائة، ثم إحداث الوكالات الجديدة التي وصلت إلى أزيد من مائة في مختلف ربوع التراب الوطني”.
التقاعد.. تعدد الأنظمة وضعف التنسيق
أكدت اللجنة التقنية، المنبثقة عن المناظرة الوطنية المُنعقدة في دجنبر 2003، التي خصصت لتدارس إشكالية التقاعد بالمغرب، أن أنظمة التقاعد تعرف مجموعة من الصعوبات المتعددة، منبهة إلى تأثيرها المنتظر على توازنها المالي.
وعلى الرغم من حجم الاختلالات التي حذرت منها اللجنة سالفة الذكر، فإن تفعيل التوصيات الصادرة عنها عرف تَأخَّرا، حيث مرت أكثر من تسع سنوات قبل الشروع في الإصلاح.
وقد أرجع المجلس الأعلى للحسابات العوامل البنيوية لهشاشة النظام إلى عدم تناسب مستوى المساهمات مع المعاشات، “بعكس أنظمة التقاعد الأخرى المعمول بها في المغرب، فإن نظام المعاشات المدنية يعمل دون سقف محدد”، ثم تدهور المؤشر الديمغرافي والتزايد المستمر لأمد الحياة؛ “فأمام التدهور الذي لحق بالمحرك الديمغرافي، وبالنظر إلى الارتفاع المتزايد لعدد المتقاعدين الجدد، لم يعد النظام قادرا على توفير موارد كافية، لضمان تغطية تمويل النفقات المتعلقة بخدمات التقاعد”.
ويؤكد الخبراء أن أصل المشكل يعود إلى تعدد أنظمة التقاعد، في ظل غياب أي مقاربة تكاملية بين الصناديق المعنية، بحيث نتحدث عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والصندوق المغربي للتقاعد والصندوق المهني المغربي للتقاعد، الأمر الذي يستدعي الاتجاه نحو خلق قطب عمومي وحيد، يقوم على أساس تدبير نظام تقاعد دائم.
ويوصي المجلس الأعلى للحسابات، ضمن تقريره السنوي برسم سنتي 2016 و2017، بـ”اعتماد الإصلاح في إطار حوار موسع مع جميع الأطراف المعنية، واعتماد منطق التدرج في تنزيل المصالح على مراحل، طبقا لخارطة طريق يمكن اعتمادها في قانون إطار، فضلا عن المحافظة على القدرة الشرائية للشرائح الاجتماعية الأقل دخلا، ثم الأخذ بعين الاعتبار وضعية الأشخاص المزاولين للمهن الشاقة”.
“راميد”.. برنامج “خرج من خيمة الصحة مائلا”
تعاني أنظمة التغطية الصحية من اختلالات عدة، ترتبط أساسا بعدم مواكبة توسيع نطاق التغطية الصحية بالزيادة في الاعتمادات المالية المخصصة لهذا المجال.
وفي هذا السياق، أشار المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي إلى أن “تكلفة الأعمال الطبية في تزايد مستمر، لا سيما بالقطاع الخاص، في ظل اللجوء المتزايد إلى عدم التصريح بجزء من المصاريف المؤداة”، داعيا إلى ضرورة “تعزيز آليات مراقبة التعريفات المُطبقة في القطاع، من أجل تفادي أن يجد المواطنون أنفسهم إزاء تعريفات مرتفعة وغير مبررة، وأن يقعوا ضحية استغلال الضعف”.
وبخصوص نظام المساعدة الطبية، المعروف اختصارا بـ”راميد”، أوضح المجلس ذاته أنه “شمل ما مجموعه 11.7 مليون مستفيد مع متم سنة 2017؛ غير أن 7.4 ملايين منهم فقط يتوفرون على بطائق سارية المفعول. ويعزى هذا الأمر إلى أن معدل تجديد البطائق بلغ 46 في المائة، مع تسجيل نسبة ضئيلة للبطائق في صفوف الساكنة الموجودة في وضعية هشاشة، التي يُطلب منها أداء مساهمة مالية للاستفادة من راميد”.
وأبرز تقرير المجلس لسنة 2017 أن “هذا الوضع يؤثر سلبا على المداخيل المالية للنظام، بسبب خروج الساكنة في وضعية هشاشة من دائرة الخدمات التي يوفرها. علاوة على ذلك، ارتفع الطلب على الخدمات الصحية منذ تعميم نظام المساعدة الطبية سنة 2012، دون تحسين عرض العلاجات الذي يقدمه قطاع الصحة العمومية، ولا زيادة مهمة في الموارد البشرية والمالية، بما يُمكّن من مواكبة ارتفاع الطلب”.
“أدى تعميم نظام المسـاعدة الطبيـة إلى الضغـط على المؤسسـات الصحيـة وإنهاكهـا، خاصـة المراكـز الاستشفائية الجامعيـة، حيـث يجـد المرضـى أنفسـهم، رغـم توفرهـم علـى بطاقـة “راميـد”، مضطريـن لانتظـار مواعد طويلـة تمتـد غالبـا إلـى شـهور، مـن أجـل الاستفادة مـن بعـض الفحوصـات الطبيـة، وإذا مـا اسـتمر هـذا الإنهاك وأصبـح واقعـا لا يتغيـر، فإنـه سـيدفع المرضـى غيـر الحامليـن لبطاقـة “راميـد” إلـى مغـادرة المؤسسـات الطبيـة العموميـة والتوجـه بشـكل تلقائـي نحـو القطـاع الخـاص”، يُورد التقرير السنوي.
صندوق التماسك الاجتماعي.. ضعف آليات التتبع والتقييم
أحدثت الحكومة “صندوق دعم التماسك الاجتماعي”، بهدف المساهمة في تمويل برامج الدعم الاجتماعي، المتمثلة في المساهمة في تمويل النفقات المتعلقة بتفعيل نظام المساعدة الطبية، وتمويل المساعدة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وكذلك المساهمة في النفقات المتعلقة بمكافحة الهدر المدرسي؛ من قبيل برنامج مليون محفظة وبرنامج تيسير، ثم الدعم المباشر للنساء الأرامل.
وعاب المجلس الأعلى للحسابات على الصندوق غياب إستراتيجية مندمجة لتفعيل برامج الدعم الاجتماعي، ومحدودية آليات التتبع والتقييم، ثم عدم تحصيل جميع المساهمات المتعلقة ببرنامجي “مليون محفظة” و”نظام المساعدة الطبية” لفائدة صندوق التماسك الاجتماعي، مطالبا بوضع إستراتيجية مندمجة في مجال الدعم الاجتماعي بشراكة مع جميع المتدخلين، توضح الأهداف والفئات المستهدفة ومخططات التمويل؛ إلى جانب وضع آليات للتنسيق والتتبع والتقييم؛ والإسراع في إبرام الاتفاقيات بين وزارة المالية وجميع القطاعات الوصية على برامج الدعم الاجتماعي مع مراعاة البرمجة المتعددة السنوات؛ فضلا عن إعداد تقارير دورية تهم جميع أنشطة الصندوق وبرامجه؛ وأخيرا الحرص على تنزيل نظام معلوماتي مندمج ومتكامل يوفر المعطيات بصفة آنية.
الحبيب كروم، عضو الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة والحق في الحياة، قال إن “أنظمة الحماية الاجتماعية بالمغرب لا ترقى إلى تطلعات الشعب المغربي، في ظل غياب سياسة مندمجة وموحدة للحماية الاجتماعية، فضلا عن غياب التتبع والتقييم بشكل منتظم، خاصة على المستوى المالي، وعدم الحرص على ضمان تكامل وتناسق لمختلف الآليات هذا الورش”.
وأضاف كروم، في تصريح لهسبريس، أن “الحماية الاجتماعية كدعم الأرامل وبرنامج تيسير تبقى ضعيفة جدا، كما أن مجموعة من الفئات الهشة ليس لها أي دعم ولا أي تغطية صحية، ويجب توسيع التغطية الصحية الأساسية في أفق تعميمها لتشمل جميع الفئات الاجتماعية”.
ودعا الفاعل الصحي إلى”تحسين هذه التغطية لفائدة الفئات الهشة والمعوزة، بدءا من تعميم نظام المساعدة الطبية على مجموع السكان المستهدفين، من خلال تقييم نظام الاستهداف، ووضع آليات ملائمة لتمويل هذا الأخير، بالموازاة مع الملاءمة بين العرض والطلب. كما يجب الإسراع بإقرار تغطية صحية لأصحاب المهن الحرة والأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا”.
وختم المتحدث تصريحه بالقول: “يجب جعل ذوي الاحتياجات الخاصة، لا سيما الأطفال والأشخاص المعاقين والمسنين، ضمن أهداف الحماية الاجتماعية في مختلف المراحل”.